Sunday, April 30, 2017

"طوني إردمان".. الفيلم الذي ظلمته لجنة تحكيم كان


كُتب المقال كي يُنشر فور انتهاء مهرجان كان 2016، لكنه لم يُنشر حتى اليوم

فور إعلان لجنة التحكيم برئاسة الاسترالي جورج ميللر أسماء الفائزين بجوائز الدورة التاسعة والستين من مهرجان كان السينمائي الدولي (11-22 مايو)، بدأت حالة من عدم الرضا في الظهور في كتابات النقاد والصحفيين الذين تابعوا دورة المهرجان وشاهدوا الأفلام المتسابقة. أسباب هذا السخط تباينت لكن بقى التحفظ المتكرر في كل الكتابات المعترضة كان خروج فيلم "طوني إردمان" للمخرج الألمانية مارين أدي بلا جوائز، مكتفياً بجائزة الإتحاد الدولي للصحافة السينمائية (فيبريسكي) التي نالها الليلة السابقة للجوائز.

سر الإجماع على فيلم أدي يكمن في كونه فيلماً مختلفاً عن الأنواع التي عادة ما يتحمس لها النقاد ويراها آخرون لا تستحق الاحتفاء. "هذه ليست لجنة تحكيم من النقاد"، قالها بوضوح المخرج الأمريكي جويل كوين رئيس لجنة تحكيم الدورة الماضية من كان عندما تلقى سؤالاً اعتراضياً على اختيارات لجنته. لكن في حالة "طوني إردمان" لا يمكن أن نصف هذا الفيلم عسير التصنيف باعتباره ملائماً للنقاد، بل إن المنطقي بحكم كونه ـ ظاهرياً ـ فيلماً كوميدياً أن يميل أكثر لذوق المشاهد العادي.


لا تصنيف لا توقع

"طوني إردمان" هو أول فيلم ألماني يتنافس في المسابقة الرسمية لمهرجان كان منذ مشاركة فيم فيندرز عام 2008 بفيلم "باليرمو شوتنج". وفيه تعود المخرجة الحاصلة على الدب الفضي في برليناله 2009 عن "كل شخص آخر" للعالم الذي تفضله: العلاقات الشخصية وتعقدها، هذه المرة عبر علاقة بين أب وابنته، لكنه أب بعيد عن كل التصورات المسبقة.

وينفريد (بيتر سيمونيشيك) معلم بيانو متقاعد، يفقد آخر ما يربطه بحياته في ألمانيا بموت كلبه وتوقف تلميذه الأخير عن الدروس، ليقرر أن يسافر إلى رومانيا كي يزور ابنته إيناس (ساندرا هولر). الابنة لم تفقد فقط علاقتها بوالدها بل هي امرأة معاصرة، حياتها بالكامل مكرسة لعملها في شركة عابرة للقارات، وما تلاقيه داخل الشركة من صراعات كثير منها مرتبط بكونها امرأة. محاولة الأب لإعادة الروابط مع إيناس بالطرق الطبيعية تتحول لمسار كوميدي عندما ينتحل شخصية غريبة الأطوار هي "طوني إردمان"، مستخدماً باروكة وأسنان مستعارة، ليتواجد في كل مكان تزوره ابنته فيحيل حياتها جحيماً.


الملخص السابق يوحي لمن يقرأه بأنه مجرد فيلم كوميدي، لكن حقيقة الأمر أن قيمة فيلم مارين أدي تكمن في قدرة المخرجة على تجاوز التصنيفات، وصياغة عمل يتحرك وفق منطق خاص ومسار درامي تعرف بعد محاولة أو اثنتين أنه غير قابل للتوقع. هذا فيلم يجبر حتى الناقد المتمرس على الاستسلام والتوقف عن تخيل ما سيحدث، والاكتفاء برصد الأحداث المتتالية التي تتبلور لتُشكل حكاية تتماس بأزمات معاصرة، دون أن تفقد للحظة إنسانيتها وقدرتها على الإمتاع الذي جعل الفيلم يتلقى تصفيقاً حاراً بعد أحد مشاهده من حضور العرض الصحفي، وهو أمر نادر الحدوث في مهرجان كان.


هذا الطفل داخلنا

للوهلة الأولى لا تبدو أي من الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم محببة للنفس أو مناسبة للتماهي بمعناه الكلاسيكي. الأب وينفريد غريب الأطوار وكاذب، يطارد ابنته دون سبب فيزعجها ويفسد عملها. أما الابنة فهي قاسية القلب عملية بشكل زائد، تقابل والدها بجفاء وتسعى للتخلص منه. هذا مدخل لا يطلب تعاطفاً مجانياً ولا يريد من المشاهد أن يحسم موقفه من البداية، بل يتعامل مع الحكاية بهدوء ويدفعها للأمام عبر مواقف غير مريحة يتسبب فيها الأب، لكنها تكشف تباعاً عن الجانب الجيد داخله وداخل إيناس.

بتوالي المواقف خلال زمن الفيلم الذي يمتد 162 دقيقة تنشأ علاقة بين الجمهور والبطلين، لتصبح تصرفات الأب مقبولة على غرابتها، ويغدو التعاطف مع الابنة منطقياً بحكم وجودها دائماً في وضع محرج، كي يسفر هذا التصاعد المليئ بالمفاجآت عن فهم لطبيعة الخصم الذي يواجه الجميع وهو الحياة المعاصرة، التي تقوم في كل لحظة بقتل الطفل داخل نفس كل منّا، ليعيش عمره يطارد النجاح والثراء، دون الانتباه لأنه في سبيل تحقيقهما قد تنازل عن الشعور ولو بلحظة من السعادة الخالصة.

وينفريد أو طوني إردمان هنا هو المهرج الكبير، الذي أدرك بفطرته أن ابتعاد إيناس عنه ليس مجرد انفصال طبيعي بين ابنة بالغة ووالدها، وإنما هو صورة لانفصال تجبر الابنة نفسها عليه بين طفولتها وصورة المرأة الناجحة المستقلة التي تود أن تظهر بها. ليكون الشد والجذب مع والدها بمثابة عملية تطهير تخوضها كي تصل لنقطة تتحول فيها هي الأخرى مهرجة لا تأخذ وظيفتها على محمل الجد. النقطة التي تبلغها في مشهد كوميدي بالغ الذكاء انفجر خلاله كل من في صالة ديبوسيه الضخمة في الضحك.


جماليات مقتصدة ونهاية مبهرة

على المستوى البصري اختارت مارين أدي تصوير فيلمها بشكل متقشف، لا مجال فيه للجماليات البعيدة عن الموضوع. بل يمكن القول أن الصورة الخالية من التباين اللوني وعمق المجال جاءت متسقة مع فكرة العالم البارد الذي تعيش فيه الشخصيات. عالم العاصمة الرومانية التي تعمل في واجهتها الشركات العالمية بينما تخفي أحياءها الفقر والتعاسة. عالم إيناس التي تعتقد أن راحتها تتلخص في إبعاد والدها لتكتشف أنها لا تحتاج شيئاً قدر وجودها بالقرب منه.

التكامل بين امتلاك الفيلم لوجهة نظر واضحة في حياة البشر المعاصرة، والتعبير عنها في دراما ذكية وممتعة وبعيدة عن التوقعات، مع اختيار الشكل البصري الأمثل لكل ذلك، مدعوماً بأداء تمثيلي مؤثر من الممثلين الرئيسيين، كانت هي الأسباب التي جعلت الفيلم يتصدر اختيارات النقاد منذ عرضه وحتى نهاية مهرجان كان. يضاف لذلك مشهد النهاية المبهر الذي ختمت به المخرجة فيلمها. المشهد الذي يسخر ببساطة من عبثية الحياة حتى مع البطل، الذي يقع في نفس الخطأ الذي فعل كل هذا كي يخرج ابنته منه.

"طوني إردمان" واحد من أمتع الأفلام التي عُرضت خلال مهرجان كان السينمائي المنقضي. ورغم خروجه دون جوائز سيكون له شأن كبير في المهرجانات التالية، وسيظل طويلاً في ذهن كل من شاهده.

No comments:

Post a Comment