Saturday, July 23, 2016

العوامة 70.. جيل السبعينيات والواقعية الجديدة


المادة من كتاب "محظورات على الشاشة.. التابو في سينما جيل الثمانينيات"



من بين كل أبناء جيله تمتاز تجربة خيري بشارة السينمائية بسمات شديدة الخصوصية، أهمها التنوع اللافت في القوالب السردية والفكرية، والشجاعة في الإقدام على تناول عوالم مختلفة زمانيا ومكانيا، وصلت في أحد الأعمال التي لن نناقشها في دراستنا إلى أن تدور الأحداث فوق سطح القمر "ليلة في القمر". فخيري بشارة لم يفتقر أبدا للإقدام على التجارب المغايرة، التي ترواحت بين أكثر الصور جماهيرية وشعبوية، إلى أكثرها ذهنية وتعقيدا. هذا المشوار الحافل وهذه الجرأة الفنية يمكن تلمسهما في فيلمه الثاني "العوامة 70"، والذي قدمه خلال عام 1982 ليتحول لعلامة في موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، ويلفت النظر لمخرجه الذي تحول سريعا لأحد أهم رموز هذه الموجة.

بشكل عام امتاز فيلم "العوامة 70" بالجرأة التي تصل لحد تحطيم التابو في اختيارين تأسيسيين، الأول هو تقديم المخرج لعمل يمكن أن يندرج تحت وصف السيرة الذاتية، وهي نوعية بخلاف كونها غير مألوفة في السينما المصرية، فمن المستغرب جدا أن يقدمها مخرج لم يكن قد تجاوز عامه الثلاثين سوى بعامين أو ثلاثة. الاختيار الثاني وهو الأهم، هو التخلي الكامل عن التراث السردي للسينما المصرية، والذي دار اللهم في استثناءات نادرة في مساحة ما تقع بين المسرح والحكي الشعبي، مساحة يعمل التعامل معها بصريا بجودة أو برداءة ولكن اللغة السينمائية تظل في الحالتين وسيلة تحمل الحكاية لتوصلها للمشاهد. فإذا اعتبرنا أن معظم محاولات التجديد قبل "العوامة 70" كانت تزيينا لهذه العربة الناقلة للحكاية، فإن خيري بشارة عمل في فيلمه الأيقوني على اكتشاف الخصائص المميزة للعربة التي ظلت عقودا ضحية إما للجهل أو التجاهل.

ولتوضيح الفارق بين الأمرين سنفترض رغبة أحد المخرجين وكتاب السيناريو الكلاسيكيين في التعبير عن أزمة البطل أحمد الشاذلي (أحمد زكي)، المخرج الشاب الذي يعاني من تراكمات الإحباط وعدم التحقق وتخبط الهوية، فإن التفكير كان سيتجه تلقائيا للبحث عن موقف أو مواقف يتعرض لها البطل ليعبر خلالها رد فعل الشخصية وحديثها وأداء الممثل عن تلك الأزمة، وهو في حد ذاته اختيار نابع من مساحة المسرح والحكي الشعبي المائلة بطبيعتها لتشبيع المشهد والمبالغة النسبية في حدته مقارنة بالحياة اليومية التي يتعرض فيها البشر باستمرار لمواقف عسيرة لكنها لا تكشف بوضوح عن دواخلهم. ولكن خيري بشارة والسينارست فايز غالي اتخذا خيارا مغايرا تماما، هو ألا تكون المواقف في صورتها المفردة تحمل أي دلالة واضحة أكثر مما تحمله الحياة ذاتها، وألا يتم صياغتها في تتابعات سردية مكتملة أو حتى في خطوط درامية كاملة الإشباع، بل تظل دلالة كل موقف سينمائيا مماثلة لدلالته على أرض الواقع (لذلك فهي واقعية)، على أن تكون كل هذه الشذرات في النهاية صورة لا يمكن وصفها بالكلية أو الاكتمال، ولكن بالدلالة على أزمة البطل المماثلة لكل أبناء جيله (لذلك فهي جديدة)، مستندة في ذلك على مخزون من المشاعر والإحالات تكون داخل ذهن المشاهد استنادا على قالب سردي وبصري مستمد بالكامل من طبيعة الوسيط لا من غيره (ولذلك فهي سينمائية).



التكوين التابوهي لأحمد الشاذلي

وإذا كان صناع الفيلم قد حطموا من البداية الثوابت في اختيار موضوع الفيلم وأسلوبه السردي، فإن الخطوة الأكثر عمقا كانت توظيف التابوهات في تكوين شخصية البطل أحمد الشاذلي، وهي الشخصية التي كما قلنا تأخذ في التبلور شيئا فشيئا من بداية الفيلم لنهايته، والتي سنوضح كيفية مساهمة التابوهات الثلاثة في تكوينها كما سيلي..



أولا: الدين – الأسم وتناقضاته

البداية تأتي من اختيار اسم البطل، وهو اختيار ينبغي التوقف عليه قليلا لسببين، أولهما أن الأسماء التي تدل بوضوح على ديانة صاحبها لم تكن أبدا أسماء مألوفة في السينما المصرية، أما السبب الثاني فهو أن كلا من مخرج الفيلم ومؤلفه مسيحيا الديانة، وبالتالي فإن كل العناصر تؤكد إن خيري بشارة وفايز غالي كانا قادرين تماما على اختيار اسم محايد لشخصيتهما الرئيسية، ولكنهما اختارا الإسم المسلم عن عمد، وهذا ما يدفعنا لمحاولة البحث عن سر رغبة صناع الفيلم في التأكيد على أن بطلهما مسلم الديانة.

الإجابة تأتي أيضا من منهج الفيلم الذي تحدثنا عنه، فلا تنتظر مشهدا يتحدث فيه البطل عن قناعاته الإيمانية أو نشاهده فيه يصلي أو يرفض الصلاة، ولكن يكفي أن يظل جزء من وعي المشاهد منشغلا طوال زمن الفيلم بالتناقض بين الإسم الديني للبطل وبين نمط حياته شديد البعد عن كل التصورات النمطية عن الشاب المسلم، فهو يشرب الخمر بانتظام ويدخل علاقات جنسية خارج إطار الشرعية الدينية، وغيرها من التفاصيل التي تمثل مع الاسم أحد صور التناقضات التي انغمس فيها جيل السبعينيات الذي نازعته قوى الهزيمة والانتصار، والقومية والانفتاح، والأصولية والتحرر، وهو الجيل الذي يتحدث الفيلم تحديدا عن أزمته، ولكن دون صياح أو شعارات ممجوجة.


ثانيا: السياسة – وأد نموذج البطل 

للسياسة وجود واضح في "العوامة 70"، بل أن الفيلم كثيرا ما يساء تفسيره وتجد البعض يصفونه بأنه يناقش الفساد في المصانع الحكومية ومافيا سرقة القطن من المحالج بعلم الإدارة. والحقيقة أن قضية المحلج من أكثر الخطوط محورية في الفيلم، بل أن بطلها العامل عبد العاطي (أحمد بدير) هو الشخصية الوحيدة من شخصيات الفيلم التي تمتلك حكاية مكتملة ونهاية واضحة بمقتله على أيدي مافيا السرقات. ولكن الحقيقة التي لا فكاك منها هي أن بطل الفيلم هو أحمد الشاذلي وليس عبد العاطي، وأن الحكاية لو كانت تهتم بالمحلج أكثر من اهتمامها بالبطل لكانت قد سارت في اتجاه مغاير تماما.

حكاية المحلج هنا على أهميتها ليست أكثر من مرآة نشاهد من خلالها تفاصيل شخصية أحمد المعقدة. شخصية ابن جيل السبعينيات الشاب الذي أثبت من البداية أنه أكثر ذكاءا من الأجيال السابقة الحاكمة، فيقوم بسهولة بخداع مدير المحلج وتسجيل حوار وهمي معه ليسمح له بالتصوير على حريته في المكان، ولكنه وبالرغم من ذكاءه لا يظهر أي رغبة في مواجهة فساد الجيل السابق، ويوافق على مضض أن يجمع العامل الراغب في الإبلاغ عن الفساد بخطيبته الصحفية وداد (تيسير فهمي)، ليظهر عدم تصديقه لرواية العامل، فترد عليه خطيبته بأن سبب موقفه ليس عدم التصديق ولكن عدم الرغبة في التورط أكثر عندما علم أن الأمر سيمتد للإبلاغ في قسم الشرطة. أحمد الشاذلي إذا وبالرغم من ألمعيته يعيش داخل عالمه الآمن، يخرج منه قليلا ليخوض مغامرات محدودة يعلم أنها لن تضره، لكن عند المحك الحقيقي يكون تصرفه هو التراجع وإيثار السلامة، حتى على حساب الحق.

بطل العوامة 70 إذن هو النموذج العكسي لكل تصورات المشاهد عن الشخص الصالح لأن يكون بطلا لفيلم سينمائي، فهو بطل بلا انتماء حقيقي ولا أي سمة من سمات البطولة. بل أن قسوة بشارة وغالي على بطلهما تبلغ ذروتها في مشهد التحقيق معه بعد مقتل عبد العاطي، وهو المشهد الذي يصدمنا فيه بتكذيب تفسير الضابط للقضية مفضلا فهم الحالة باعتبارها مجرد "قضاء وقدر"، في تصرف يجسد كل التناقضات والجبن والتشوهات التي عاني منها البطل وجيله. وحتى محاولة أحمد الوحيدة لتقمص شخصية عمه السكير المغامر (كمال الشناوي)، والذهاب لانتزاع الحقيقة بيديه كما فعلها عمه قديما مع جندي انجليزي، تنتهي هي الأخرى بالفشل الذريع إمعانا في تصوير العجز وقلة الحيلة حتى عندما تتوافر الرغبة في التحدي.


ثالثا: الجنس – علاقات وقيم بالية

تنقل الكاميرا علاقة جنسية وحيدة خلال الفيلم، هي علاقة أحمد بجارته القديمة سعاد (ماجدة الخطيب)، والتي يلتقيها خلال زيارته لقريته فيعيد علاقته معها. زيارة أحمد لقريته كشفت عن جانب آخر في تكوينه هو التنصل من ماضيه مع عدم القدرة على الفكاك منه، فهو لا يعرف حتى اسم زوج شقيقته، لكنه في نفس الوقت يصمم على حضور العرس، وهو لا يطيق البقاء في القرية لأكثر من ساعات، لكنه لا يتمكن من التخلص من تأثيرها على شخصيته وحياته. وعلاقته بسعاد هي الأخرى نموذج لهذا التفكك، فقد كانت قديما أشبه بشقيقة كبرى يقضي ساعات اليوم في منزلها، لكنه أُجبر على مقاطعتها بشكل كامل بسبب نزاع بين العائلتين، كواحد من المواقف الحادة التي أجبر أبناء جيله على اتخاذها عكس رغبتهم لا لسبب سوى قرارات جيل الآباء القاطعة التي شوهت الأبناء بحجة الكرامة القبلية.

يستعيد أحمد علاقته بالجارة القديمة، التي انتقلت للقاهرة حاملة تشوهاتها الشخصية بدورها، لتفتح بابها لأول رجل يذكرها بماضيها النقي، وتمارس معه الجنس على بعد خطوات من غرفة والدها المريض، ويدخل هو العلاقة دون أن يفكر في خطيبته، دون أن يعني هذا أنه لا يحب الأخيرة فهو بالفعل يحبها، ولكن الأمر مجرد حلقة من مسلسل التنازلات والتناقضات الحاكمة لحياته. والمدهش في الأمر أنه وبالرغم من كل سقطاته الأخلاقية، يجد أحمد الشجاعة لمصارحة سعاد باتخاذه موقفا سلبيا منها لأنه لاحظ عندما مارس معها الجنس أنها ليست عذراء!

لاحظ هنا أن هذا الحوار يدور بالظبط قبل اللحظة الدرامية الأهم في الفيلم وهي اكتشاف جثة عبد العاطي، وهو موقع يكشف عن وعي شديد من صناع الفيلم بما يريدون قوله، فأحمد هنا يكشف في جملة حوارية واحدة عن كل شيئ: زيف قناع الحرية الذي يرتديه، وتخبط هويته بين أخلاقيات القرية ونمط الحياة المتفتح، وهو ذنب لم يرتكبه هو ولكنه نتيجة لكل العوامل التي شكلته وشكلت أبناء جيله بصورة لا يمكن أن تكون نتيجتها سوى جثة منتفجة طافية أمام منزله يخاف حتى أن يوجه الاتهام لمن قتل صاحبها.

نفس التشوه تجده في موقف والد خطيبته وداد من مقتل رجل برئ فقد حياته لأنه قد فاتح الأبنة الصحفية عما رآه من فساد، فلا ينتبه الوالد لكل هذا ولا يشغله سوى الثورة ضد ابنته لأنها دخلت منزل خطيبها لتقابل العامل قبل أن يتم زواجها. وهو الموقف الذي ستجد ـ وياللعجب ـ نسبة كبيرة من المشاهدين متعاطفين معه، ليوجه به خيري بشارة ضربة أخرى للأخلاقيات الزائفة التي تتشدق بها الطبقة الوسطى، ليؤكد لهم أن الأخلاق هي القواعد التي تهدف لإعلاء القيم الإيجابية في المجتمع، وما أتعس مجتمع تحافظ الفتيات فيه على خريطة التحركات "الأخلاقية" دون أن يمنع هذا أبرياءه من الموت ظلما!


نهاية متفائلة من أجل المستقبل


وبالرغم من كل القسوة على أبطاله قام خيري بشارة بإنهاء فيلمه البديع بنهاية متفائلة.. نهاية يرسم فيها لأبناء جيله خارطة طريق للمستقبل كلمة السر فيها هي الإيجابية. فوداد تلقي وراء ظهرها كل تراث الهيمنة الذكورية لترفض فسخ أحمد لخطبتهما، وتعيد دبلتها ليده بالقوة لتؤكد له أنهما فقط القادران على تشكيل مستقبلهما كما يريدان برغم من محاولات المجتمع لكسرهما، ليوافق أحمد على أول موقف صحيح يجبر على اتخاذه، وينعكس هذا على موقفه الشخصي ليقرر صناعة فيلم عن انتشار البلهارسيا في مصر، كخطة إيجابية جريئة يأخذها من موقعه لإصلاح ما أفسده من قبله.. خطوة لو كان كل من عاشوا أزمته قد اتخدوها لكان لعالمنا الحالي شأن آخر.

No comments:

Post a Comment