Thursday, May 4, 2017

الوردة البيضاء.. حكاية أول فيلم غنائي مصري


نُشرت الدراسة للمرة الأولى في مجلة "السينما العربية" الصادرة من مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت

ارتبطت السينما المصرية منذ عقود نشأتها بالأغنية. بل يمكن القول بأن تحوّل صناعة الأفلام في مصر إلى صناعة حقيقية، مربحة وجماهيرية، هو أمر يعود جانب كبير من الفضل فيه إلى تلك العلاقة بين الفيلم والأغنية، والتي جذبت جمهور الغناء ليشاهد مطربيه المفضلين على الشاشة الكبيرة. ولعل "موسوعة الأغنيات في السينما المصرية"[1] الصادرة قبل عامين، تلقي الضوء على حجم الإسهام الغنائي في الأفلام المصرية. فالموسوعة التي أعدها الباحث محمود قاسم، ونشرتها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، تضم سبعة مجلدات ضخمة، يفوق عدد صفحاتها الستة آلاف صفحة.

لاحظ أننا نتحدث عن تاريخ سينمائي يضم حوالي أربعة آلاف فيلم روائي طويل، وفقا لتقديرات يصعب تحديد مدى دقتها. لاحظ أيضا أن المجلدات تضم الأغنيات المنطوقة داخل الأفلام فقط، أي لا تتضمن الموسيقى التصويرية والأغنيات الترويجية والمصاحبة التي لا يتضمنها شريط الفيلم soundtracks. أي أن أغنيات أربعة آلاف فيلم احتاجت لأن تدون في ستة آلاف صفحة. أمر يمكن أن يتخيله كل من يمتلك خبرة مع الأفلام المصرية، التي ظل وجود أغنية أو أكثر في كل فيلم، سمة غالبة في معظمها حتى يومنا هذا.

تاريخ أول عرض سينمائي في مصر أمرٌ مُختلفٌ حوله، ما بين كونه خلال العام 1896 أو 1907. لكن ما يهمنا عند الحديث عن الفيلم الغنائي هو العام 1932، وبالتحديد يوم 14 مارس الذي شهد عرض "أولاد الذوات"، أول فيلم مصري ناطق، من إخراج محمد كريم وبطولة كل من يوسف وهبي وأمينة رزق وسراج منير ودولت أبيض. فإذا كانت الأغنية بطبيعتها عنصراً ناطقاً، فإنه لم يكن من الممكن أن تتواجد طالما ظلت الأفلام صامتة. بالتالي، وبالنظر إلى كون فيلم "أنشودة الفؤاد" أول فيلم غنائي مصري قد عرض بعد شهر بالضبط، بتاريخ 14 أبريل [2]1932. فيمكن القول باطمئنان أن ارتباط السينما بالأغنية بدأ في مصر من اللحظة الأولى التي صار من الممكن فيها ـ تقنياً ـ أن يحتوي الفيلم على كلمات منطوقة.

المعلومات المتوفرة عن "أنشودة الفؤاد" ليست بالكثيرة، فهو من إخراج ماريو فولبي، وضع السيناريو والقصائد الخاصة به خليل مطران، ولعبت بطولته المطربة نادرة[3] وجورج أبيض وعبد الرحمن رشدي. أما الألحان فقد وضعها الموسيقار زكريا أحمد الذي شارك أيضا في تمثيل أحد الأدوار. كل المصادر تُجمع على أن الأغنيات التي ضمها الفيلم كانت أغنيات طويلة تطريبية، على الطريقة الشائعة في الحفلات الحية. بل أن حوار الفيلم كان بالعربية الفصحى وليس بالعامية الدارجة[4]. وتقول د.رتيبة الحفني أن "أغاني الشيخ زكريا للسينما لم تخرج عن الأغنية التقليدية التي كانت تستهل بالمقدمة أو الدولاب. أما عبد الوهاب فقد خصها ـ أغنية السينما ـ بألحان تتمشى مع المواقف التمثيلية، واستبدل بالأغاني الطويلة أخرى قصيرة، وأدخل عليها الجديد من حيث الطابع والسرعة"[5].

ما سبق يجعلنا نأخذ بالرأي الذي يعتبر "الوردة البيضاء" للمخرج محمد كريم، بطولة وألحان محمد عبد الوهاب، والمعروض بتاريخ 4 ديسمبر 1933 في سينما رويال، أنه أول فيلم غنائي مصري حقيقي. بل أن "موسوعة الأغنيات في السينما المصرية" تتجاهل وجود فيلم "أنشودة الفؤاد" من الأساس، وتبدأ تأريخها لأغنيات الأفلام انطلاقا من فيلم محمد كريم. وسنحاول في السطور التالية تقصى حكاية صناعة هذا الفيلم من أكثر من مصدر، لتوضيح الظروف التي احاطت بصناعة أول فيلم غنائي، والتفاصيل التقنية التي صاحبت نشأة النوع في مصر.


الفكرة في مواجهة التفاخر

من الطبيعي أن ينسب كل شخص لنفسه أنه صاحب الفضل في صناعة أول فيلم غنائي مصري، وأنها كانت فكرته من البداية، كعادة كل منتج ناجح شارك في صناعته أكثر من فرد. الطريف أن صانعا "الوردة البيضاء"، كريم وعبد الوهاب، وعلى العكس تماما من المتوقع، تبارى كل منهما في إلقاء الفضل على الآخر، ليس حباً فيه بالطبع، ولكن للتفاخر بأن الطرف الثاني كان هو الساعي للعمل مع صاحب الرواية والاستفادة من موهبته.

لا يوجد خلاف على أن اللقاء الأول بين كريم وعبد الوهاب تم في مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية، فبراير 1931، في منزل فكري أباظة صديق موسيقار الأجيال، الذي كان ينزل فيه عند إحياءه لحفل في المدينة. بينما كان كريم في الزقازيق مع المصوّر حسن مراد لتصوير فيلم تسجيلي بعنوان "التعاون". الروايات تجمع أيضا أن عبد الوهاب الذي كانت شهرته قد ذاعت وقتها كان قد شاهد بالفعل فيلم "زينب" الصامت، الذي أخرجه محمد كريم خلال العام السابق.

الاختلافات تبدأ بعد مرحلة التعارف والدردشة. فيذكر محمد كريم في مذكراته[6] أن عبد الوهاب قد سأله ببساطة "مش ممكن يا أستاذ تصور لي فيلم قصير عن حياتي الخاصة؟"، فرد المخرج عليه "فعلا دي فكرة كويسة.. وتبقى ذكريات جميلة لك في المستقبل". الرغبة إذن كانت رغبة الموسيقار الشاب في العمل مع المخرج الناجح. بينما يختلف الأمر تماما في مذكرات عبد الوهاب[7]، الذي يقول أن كريم سأله ـ فجأة وبلا سابق إنذار ـ قائلا "ليه يا أستاذ ماتعملش فيلم سينمائي؟". ليكون رد المطرب هو الدهشة من الفكرة، التي أخذ كريم يشرح مميزاتها، من قدرة الفيلم على الوصول إلى الملايين عكس الحفلات التي يحضرها مئات على الأكثر، وتخليد للأغنيات لتظل موجودة ومسموعة إلى الأبد. الحيثيات التي يصفها عبد الوهاب بأنها كانت كحقن بميكروب لمرض عضال، ظل يشغل باله حتى أخذ القرار في نهاية العام التالي.


من الفكرة إلى القرار

التاريخ المؤكد لبدء التحضير للفيلم هو نهاية 1932. على الرغم من أن الصحفي محمد تبارك يذكر في كتابه "لغز عبد الوهاب"[8] أن لقاءات التحضير بدأت بين المطرب والمخرج بعد أيام من عودتهما من الزقازيق. إلا أن هذا في ظل ما رواه محمد كريم في مذكراته، بأنه وبعد نجاح فيلمه الناطق الأول "أولاد الذوات" اتفق مع بطله يوسف وهبي على التحضير لفيلم ثان بعنوان "أولاد الفقراء" مأخوذ عن مسرحية بنفس العنوان. لكنهما اختلفا حول مشهد يعرض زار شعبي، أصر كريم على وجوده في الفيلم بينما رفضه وهبي خوفا من أن يتسبب في منع السلطات للفيلم.

محمد كريم

الاختلاف وانشغال يوسف وهبي بفرقته المسرحية جعل الفيلم الثاني مشروعا مؤجلا، بل وجعل ستوديو رمسيس الذي أنشأه وهبي كأول بلاتوه سينمائي في مصر يتحول إلى مخزن لمعدات وديكوارت فرقة رمسيس المسرحية. أما محمد كريم، فظل يعاني من أزمة مالية حتى أواخر 1932، عندما وصلته مكالمة هاتفية من صديق طفولته توفيق المرندلي يطلب فيها مقابلته، ليبلغه برغبة عبد الوهاب في أن يلعب بطولة فيلم سينمائي يخرجه كريم.

وافق المخرج على الاقتراح، واتفق مع عبد الوهاب على تصوير الفيلم في باريس لأن مصر لم يكن فيها حتى ذلك الوقت ستوديو للأفلام الناطقة. وفي يوم 12 يناير 1933 قام محمد كريم في مقر شركة بيضافون في الموسكي بتوقيع عقد لمدة ستة أشهر يتقاضى خلالها 450 جنيها مصريا بخلاف أجر السيناريو. ويقع الاختيار على رواية "الوردة البيضاء" لتكون موضوع الفيلم، ويشترك محمد كريم وسليمان نجيب وتوفيق المرندلي في كتابة السيناريو الخاص بتحويلها إلى فيلم.

كريم لم يذكر في مذكراته اسم صاحب الرواية، بل كتب الحكاية بصيغة قد تُفهم بأنه هو المؤلف. لكن الباحث محمود علي الذي قام بتحقيق المذكرات يذكر في هوامش الحكاية أن الفيلم نفسه يذكر اسم مؤلف الرواية محمد متولي تحت مسمى "الفكرة والإعداد السينمائي". بل أن محمود علي قد عثر بالصدفة على نسخة بدون تاريخ من الرواية الأصلية، منشورة من قبل مكتبة مصر (سعيد جودة السحار)، ومهداة من المؤلف لصديقه عبد الوهاب. يصف الباحث النسخة بأنها تحتوي على ملاحظات مكتوبة بخط اليد تحذف أجزاء من الرواية تتناسب مع أحداث الفيلم، وتحدد مكان أغنيتي "جفنه علم الغزل" و"ضحيت غرامي عشان هواك". بما يؤكد أن النسخة كانت تحت يدي واحد ممن اشتركوا في جلسات تحويل الرواية لسيناريو التي وصفها كريم في مذكراته.


أغنيات الوردة البيضاء

كتابة السيناريو تمت تحت إشراف كريم، أما كتابة الأغنيات فكان لابد وأن تتم بطريقة أخرى. بعدما اتصل محمد عبد الوهاب بشاعر الشباب أحمد رامي يطلب منه أن ينظم أشعارا ليلحنها في الفيلم. الحكاية مذكورة في مذكرات كريم على لسان أحمد رامي[9].

"- رامي..
- نعم..
- أريد منك بعض القطع الغنائية؟
- ولكنك تعلم أنني لا أجد الشعر إذا طلبته.
- هذه القطع من أجل الفيلم الذي أود إخراجه..
- ولكنني في حالة نفسية لا تنزع بي إلى نظم الأغاني.
- هذه قطع لها مناسبات وأود أن تندمج فيها.
- هل بطل القصة شقي؟
- نعم..
- هل حُرم حبيبه آخر الأمر؟
- نعم..
- ما هي شخصيته؟
- فنان موسيقار.
- قص عليّ شيئا من خبره.
- لا أملك أن أعطيك صورة كاملة وأرى أن تقابل كريما.

وبدأ كريم يقص عليّ القصة: وعند دخوله إلى الدار وقع نظره على غادة تنزل السلم حتى إذا انتهت من درجاته انفرط العقد الذي يطوق جيدها وتناثرت حباته. فأخذ يجمع ما تناثر حتى بقيت واسطة العقد. فظل يبحث عنها حتى وجدها في منبت شجرة من الورد الأبيض. وناولها الحبة فقطفت وردة من تلك الشجرة وقدمتها إليه.

- هذه وردة الحب الصافي.
- وبعد ذلك تقدم الفتي..
- أرجوك أن تقف عند هذا الحد. إن شاء الله أراك قريبا.

وتركته ثم مضيت أنظم القطعة الأولى وأذكر أنها فاضت على لساني. وقابلت عبد الوهاب وقرأت عليه القطعة فقال بالله اقرأها على كريم بالتليفون. وكانت أغنية يا وردة الحب الصافي".

أحمد رامي

كانت "وردة الحب الصافي" إذن هي أول أغنية تُكتب للفيلم، وبالنظر إلى معلومة كون حوار فيلم "أنشودة الفؤاد" وأغنياته بالعربية الفصحى، فإن كلمات رامي كانت أول سطور بالعامية المصرية يتم تلحينها لشاشة السينما. وبخلاف الأغنية نظم رامي خمسة أغنيات أخرى ضمها الفيلم، هي "ناداني قلبي إليك" و"سبع سواقي بتنعي" و"يا لوعتي يا شقايا" و"ياللي شجاك الأنين" و"ضحيت غرامي عشان هناك". ليكون نصيب شاعر الشباب ست أغنيات من أصل ثمانية ضمها الفيلم. بعد إضافة "النيل نجاشي" لأمير الشعراء أحمد شوقي، والد عبد الوهاب الروحي الذي رحل قبل أن يشاهد فيلمه الأول[10]. وأخيرا "جفنه علم الغزل" للشاعر اللبناني بشارة الخوري، والتي أُضيفت للفيلم بعد الانتهاء من تصويره، وكانت سببا في إنجاز تقني سنتعرض له لاحقا. وبالطبع كان عبد الوهاب هو صاحب الألحان الثمانية.


اختيار البطلة والممثلين

لم يكن سهلا على المخرج محمد كريم أن يعثر على بطلة مناسبة لفيلمه. لاحظ أننا نتحدث عن مطلع الثلاثينيات وقت أن كان التمثيل لا يزال مهنة سيئة السمعة بالنسبة للرجال ناهيك عن النساء. كريم وجد فتيات راغبات في المشاركة، لكن لكل منهن عيبا، بين التي يرفض أهلها ظهورها على الشاشة، أو التي تقدمت دون علم أسرتها، وحتى "بنت الذوات الدلّوعة" حسب ما كتبه كريم. إلى أن تقدمت نجلاء عبده كريمة الصحفي والأديب اللبناني طانيوس عبده[11]. ليتم كريم اتفاقه معها على الفور لتكون بطلة "الوردة البيضاء". وأضاف إلى فريق الممثلين كل من سليمان نجيب ومحمد عبد القدوس وتوفيق المرندلي، في وقوفهم الأول أمام الكاميرا، مع دولت أبيض وزكي رستم اللذان شاركا من قبل في فيلم "زينب" الصامت.

لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن كريم. فبعد أن بدأ بتاريخ 12 مارس 1932 تصوير المناظر الخارجية في مناطق اللاهون والسلين وفيديمين[12]. وصوّر فيها مشاهد لنجلاء عبده مع زكي رستم. أصيب بطلة الفيلم بمرض التيفود، الذي كان وقتها مرضا خطيرا يحتاج علاجا ونقاهة تصل إلى ثلاثة أشهر. الأمر الذي اضطر المخرج لاتخاذ القرار الصعب واستبعاد بطلته المختارة. ليبدأ من جديد رحلة البحث عن فتاة تقف أمام عبد الوهاب.

سميرة خلوصي وعبد الوهاب

بعد فترة جديدة من البحث اتصلت دولت أبيض بمحمد كريم، تخبره أن شخصا يدعى "شلحط" قد عرّفها بآنسة تصلح للدور اسمها سميرة خلوصي. قابل كريم الفتاة التي لم تكن قد بلغت السادسة عشر من عمرها بعد، فوجدها لائقة واختارها لتكون البديلة. وكانت سميرة تعيش مع امها الفرنسية المنفصلة منذ أعوام طويلة عن الوالد المصري، وكان "من كبار الشخصيات" حسب وصف كريم، فخشى المخرج ألا تكون موافقة الأم كافية لمشاركة الفتاة وأن يرفض والدها عملها بالسينما. لكن المفاجأة السعيدة كانت ترحيب الأب بالفكرة بسهولة.

الطريف أن الأم الفرنسية كانت سببا في أول مشكلة تنشب بين ابنتها والمخرج. فقد كان التعاقد مع الفتاة يتضمن ثمن الملابس اللازمة للدور، والتي اشترط كريم أن تكون ثيابا فاخرة تناسب لعب الفتاة لدور ابنة بك من كبار الأثرياء. لكن الأم استغلت مبلغ التعاقد في شراء ملابس لنفسها، واكتفت بشراء بلوزة رخيصة لابنتها. فاضطر الإنتاج لشراء ملابس فاخرة على نفقته. الدرس الذي تعلمه محمد كريم وصار يختار بنفسه ملابس الشخصيات في كل أفلامه اللاحقة.


حكايات التصوير

أراد كريم تصوير بعض المشاهد في مصر قبل السفر لتصوير معظم أحداث الفيلم في باريس. وكان ستوديو رمسيس الذي أنشأه يوسف وهبي قد تحوّل كما قلنا إلى مخزن لمناظر فرقته المسرحية. فما كان من المخرج إلا أن استأجر صالة كبيرة في سراي المعارض، وزودها ببعض المصابيح الكهربائية بالتعاون مع شركة كوداك ومديرها مسيو ناصبيان، لتتحول صالة المعارض إلى ستوديو مؤقت صوّرت فيه بعض مشاهد الفيلم، واستكمل التصوير المحلي بمناظر خارجية تم تصويرها في عزبة مصطفى فودة بالسنبلاوين. ليتم إرسال كل المواد المصوّرة إلى معمل "أكلير" في فرنسا للتحميض.

وفي الأول من يوليو 1933 يسافر محمد كريم بصحبة المصور السينمائي بريمافيرا إلى باريس، ليستقبله إيليا بيضا السكرتير المالي للشركة المنتجة ومعه جبران بيضا أحد الشركاء، ويأخذاهما إلى ستوديو "توبيس" في ضاحية إيبيني الذي تم الاتفاق معه مسبقا لتصوير الفيلم. ليبدأ كريم تحضيراته للتصوير قبل أن ينضم إليه في فرنسا كل من محمد عبد الوهاب وسليمان نجيب وزكي رستم ومحمد عبد القدوس وتوفيق المرندلي ودولت أبيض وسميرة خلوصي، بالإضافة إلى الموسيقيين المصاحبين لعبد الوهاب: محمد عبده صالح وجميل عويس ورياض السنباطي وعزيز صادق وحسن حلمي والسيد كامل.

وبينما كان كريم منهمكاً التحضيرات النهائية للتصوير، كان عبد الوهاب يلحن أغنيات الفيلم التي كان أحمد رامي يرسل كلماتها عن طريق البريد الجوي فيسهر الموسيقار ليلحنها في ليلة واحدة. ليبدأ تصوير أول لقطات المشاهد الباريسية يوم 17 يوليو بمشهد بين زكي رستم ودولت أبيض، وتسير الأمور بلا مشكلات اللهم إلا صعوبة التعامل مع بطلة الفيلم سميرة خلوصي، بمراهقتها وعدم تقديرها للمسؤولية وموهبتها المحدودة. حتى بدأ عبد الوهاب تصوير مشاهده، فجاءت مشكلة كريم الأولى مع بطله.



المشكلة كانت رهبة عبد الوهاب المشهور بخوفه المرضي على صحته من إضاءة السينما. الكاميرات وقتها كانت تحتاج لإضاءة مرتفعة جدا كي تلتقط صورة واضحة، لدرجة جعلت بطل الفيلم يرفض استكمال التصوير أمام الإضاءة التي شمّ تأثيرها في نسيج ملابسه. ولم يقبل بالعودة إلا بعدما قام كريم بتقسيم المشاهد إلى لقطات قصيرة تقلل زمن وقوف عبد الوهاب أمام الإضاءة إلى الحد الأدنى. وانتهى اليوم بموسيقار الأجيال وهو يقسم أنه لو كان يعلم بصعوبة العمل في السينما لهذه الدرجة، لما فكر لحظة أن يقدم على العمل بها. لكن الأمر تغير في اليوم التالي بعدما جهزت إدارة الاستوديو قاعة لعرض المشاهد التي تم تصويرها بالأمس، ليشاهد عبد الوهاب نفسه ويسمع صوته لأول مرة على الشاشة، فيعيد ما شاهده ثم يذهب لكريم ليحتضنه ويقبله، وهو في غاية السعادة والحماس لاستكمال التصوير مهما كانت مصاعبه.

وخلال أيام التصوير زار الاستوديو الأخوان رئيسي صاحبا سينما رويال ومتروبول بالقاهرة، ليتعاقدا مبكرا جدا على عرض الفيلم في داري العرض المملوكتين لهما. الخطوة التي تعكس ذكاءً تجارياً ستضح آثاره عند بدء العرض الجماهيري للفيلم.


الأغنيات ومشكلاتها

إذا كان المخرج قد حل مشكلة عبد الوهاب مع الإضاءة في المشاهد التمثيلية، فإن الوضع كان مختلفا مع الأغنيات. لاحظ أننا نتحدث عن عام 1933، قبل اختراع طريقة البلاي باك Playback المألوفة لتسجيل الأغنيات، والتي يكتفي فيها المغني بتحريك شفتيه مع كلمات الأغنية المسجلة سلفا. وقت تصوير "الوردة البيضاء" كان لابد وأن يتم تصوير الأغنية بشكل حي وكامل داخل الاستوديو، يقوم المطرب بالغناء فعلاً ويُسجل أداءه بالصوت والصورة فورا. الطريقة التي وضعت محمد كريم أمام قائمة من المشكلات:

أولا: يجب أن يقتنع عبد الوهاب بالوقوف أمام الإضاءة عدة دقائق هي زمن الأغنية، وليس للقطات تستغرق ثوان معدودة كالتي اتفق مع كريم عليها.

ثانيا: الفرقة الموسيقية من المستحيل أن تظهر على الشاشة، وبالتالي لا تجلس في البلاتوه، بل في غرفة مجاورة له، فيصل صوتها للمطرب خافتا ويصل صوته للعازفين ضعيفا مما يؤثر على جودة الغناء.

ثالثا: لا يمكن للمخرج أن يقسم المشهد الغنائي لعدة لقطات، خاصة وأن التصوير كان يتم بكاميرا واحدة فقط. فعليه أن يقدم كل أغنية في لقطة واحدة ممتدة بزمن الأغنية.

رابعا: ليس في استطاعة المخرج أن يلقي بأي تعليمات أو ملاحظات صوتية حتى لا يفسد تسجيل الأغنية، وزد عليها في حالة عبد الوهاب أنه كان يمثل دون عويناته، وسط أضاءة مسلطة على وجهه، أي أنه لا يرى إطلاقا أي إشارة يمكن أن يستعيض بها كريم عن التعليمات المنطوقة.

لم يكن هناك أي وسيلة لتجاوز العقبات السابقة سوى التدريب وإجراء العديد من البروفات قبل التصوير. وعندما تم تصوير أول أغنية "يا وردة الحب الصافي" كان عبد الوهاب منزعجا وغير راضٍ عن التسجيل. ولم يهدأ إلا بعد ست ساعات تم خلالها تحميض المادة المصورة وشاهدها واطمأن على أداءه فيها. ليستمر التصوير بنفس الطريقة في سبع أغنيات، من ضمنها "ناداني قلبي إليك" التي تم تصويرها في حدائق الاستوديو، فجلست الفرقة الموسيقية تحت إحدى الأشجار، ووقف عبد الوهاب بالقرب منها يغني لسميرة خلوصي.

التصوير في باريس انتهى في الأول من أغسطس 1933، بعد 13 يوم عمل تم خلالها تصوير 165 مشهدا في 15 ديكورا، عدا المناظر الداخلية والخارجية التي سبق تصويرها في مصر. ليسافر عبد الوهاب بعدها إلى برلين لتسجيل الأغنيات على اسطوانات، بينما بقى كريم في باريس لمتابعة أعمال المونتاج. الأمور مرت بسلاسة أبدى خلالها المنتج جبران بيضا إعجابه وتقديره بعمل المخرج، الذي لم يكن يفهم أهمية دوره عندما تعاقد معه في البداية استجابة لرغبة عبد الوهاب!


الأغنية الأخيرة.. عبد الوهاب يخترع

مرت الأيام بهدوء حتى عاد موسيقار الأجيال من برلين حاملا آخر مشكلات الفيلم، وهي قيامه بتسجيل أغنية جديدة هي "جفنه علم الغزل"، التي كتبها بشارة الخوري ولحنها عبد الوهاب على نغمات الرومبا وأراد ضمها للفيلم. وافق المخرج على الفكرة ووجد للأغنية مكانا في أحداث الفيلم. ولكن برزت مشكلة التسجيل؛ فأعضاء الفرقة الموسيقية عادوا للقاهرة ولا يوجد وقت ولا ميزانية لإرجاعهم، وعبد الوهاب يُصر على وجود الأغنية وغضب من كريم عندما اقترح عليه أن يؤديها بدون موسيقى، ليقضي الليلة مهموما قبل أن يعود في الصباح بالحل.

بشارة الخوري (الأخطل الصغير)

عبد الوهاب جاء ليقترح على المخرج أن توضع الاسطوانة التي تم تسجيلها في برلين على ماكينة المونتاج "الموفيولا"، ليتم تشغيلها وتقوم الكاميرا بتصويره وهو يحرك شفتيه معها. الأمر الذي رأي كريم ومعه مهندس الصوت الفرنسي ليبلان استحالته، فالكاميرا تصور بسرعة 24 لقطة في الثانية والموفيولا تتحرك بسرعات متفاوتة، وأي محاولة لضبط سرعتهما يستحيل أن تستقيم أكثر من متر أو مترين من الفيلم الخام لا أكثر. لكن عبد الوهاب صمم على التجربة فتم نقل الموفيولا من غرفة المونتاج إلى الحدائق لأول مرة، وسط غمز ولمز العمال الفرنسيين المندهشين مما يقوم به فريق الفيلم المصري.

تمت التجربة ولا أحد يصدق في نجاحها وقام كريم بتصوير حوالي 50 متراً من الفيلم. ليتم تحميضه وتجربته ليندهش من تطابق الصوت مع الصورة في مطلع الأغنية، قبل أن تبدأ السرعات في الاختلاف تدريجيا حتى تصل عند جملة "فحرقنا نفوسنا في جحيم من القُبل" لأكثر من متر كامل. الأمر الذي أحزن عبد الوهاب وقتياً، لكن كريم أخبره أن من الممكن تعويض الأمر بالتصوير من مسافة بعيدة تخفي الفرق الزمني بعض الشيء، ليكمل كريم التجربة هذه المرة وتكون النتيجة هي تصوير الوجه الأول من الاسطوانة "نصف الأغنية" بجودة لا تقل عن 80 بالمائة، وتصبح صالحة تماما للعرض. لتكون مخيلة محمد عبد الوهاب ورغبته في البحث عن حلول هي أول من توصل لإرهاصة فكرة البلاي باك التي ستصير السائدة في تسجيل الأغنية السينمائية حتى يومنا هذا.


النجاح الظاهرة

في العاشرة والنصف من صباح 4 ديسمبر 1933 استضافت سينما رويال أول عروض "الوردة البيضاء"، الذي صار أول فيلم تنظم له حفلات صباحية بعدما كان المعتاد أن تعرض القاعات كل فيلم مرتين يوميا: ماتينيه وسواريه. ومن اللحظة الأولى كان من الواضح أن نجاح الفيلم سيتحول لظاهرة في تاريخ الصناعة الوليدة. التذاكر تباع في السوق السوداء بأضعاف سعرها الرسمي. الحفلات زادت لتصير أربعة في كل يوم. 20 ألف نسخة طُبعت من سيناريو الفيلم كي توزع على الحضور نفدت كلها خلال أسبوع العرض الأول (والمقصود هو الكُتيب الدعائي الذي كان يُسمى وقتها بالسيناريو).

بل وأطلق الفيلم بشكل غير مقصود شكلا من أشكال الاستفادة التجارية والسلع التذكارية التي ستصير لاحقا ضمن اقتصاديات الأفلام العالمية. فقامت بعض الجهات الأهلية ببيع مجموعة مكونة من سبع صور "كروت بوستال" لأبطال الفيلم في مغلف يحمل عنوان الفيلم، وقامت جهة أخرى بتسويق تماثيل صغيرة مصنوعة من الجبس لشخصيات الفيلم. كما ظهرت موضة تسمية منتجات ومحال تجارية باسم الفيلم، فصدر في الأسواق عطر كولونيا الوردة البيضاء وقماش نسيج الوردة البيضاء، وأنشيء فندق وصالون ومكوجي بل ومحل حانوتي يحمل اسم الوردة البيضاء، بعض هذه الأماكن لا يزال موجودا لليوم بعد مرور أكثر من 80 عاما من تاريخ صدور الفيلم.

هذه الأشكال من السلع التي تحوّل عنوان عمل سينمائي علامة تجارية كان من المبكر جدا أن ينتبه إليها منتجو فيلم للاستفادة منها ماديا. أضف إليها مكاسب السوق السوداء وسعر توزيع نسخ الفيلم لتعرض في قاعات الدرجة الثانية والثالثة وفي الدول العربية بل وفي أمريكا اللاتينية، لنكتشف أن من المستحيل حساب حجم الربح الذي حققه "الوردة البيضاء" سواء لمنتجيه أو لكل من استفادوا من عرضه. لكن الأمر المؤكد أن نجاحه كان ظاهرة حقيقية تسببت في سيادة الأفلام الغنائية في مصر لعقود طويلة. وبالطبع كان الشخص الأسعد بهذا النجاح هو محمد عبد الوهاب الذي تأكدت شعبيته الهائلة بالدليل العملي، فانهمرت دموعه في عرض الفيلم الأول، ولم ينغص عليه فرحته سوى افتقاده لأستاذه وأبيه الروحي أمير الشعراء أحمد شوقي[13]، الذي كان يتمنى أن يشهد معه هذه اللحظة الفريدة لمولد نجم سينمائي وتيار من الأفلام سيشكل تاريخ واحدة من صناعات السينما الرائدة في العالم.




[1] موسوعة الأغنيات في السينما المصرية - محمود قاسم (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2013) سبعة مجلدات.
[2] موسوعة الأغنيات المذكورة تتجاهل فيلم "أنشودة الفؤاد" وتبدأ التوثيق لأغنيات الأفلام بدءً من فيلم "الوردة البيضاء".
[3] وصفها الملصق الدعائي للفيلم بلقب "أميرة الطرب". لعبت بطولة فيلمين آخرين لاحقا هما "أنشودة الراديو" 1936 و"الفنان الكبير" 1938.
[4] بدايات السينما المصرية - سامي حلمي (آفاق السينما - الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2013).
[5] محمد عبد الوهاب.. حياته وفنه - د.رتيبة الحفني (مكتبة الأسرة 1999).
[6] مذكرات محمد كريم في تاريخ السينما المصرية - إعداد وتحقيق محمود علي (أكاديمية الفنون المصرية 2006).
[7] محمد عبد الوهاب.. سيرة ذاتية - إعداد لطفي رضوان (دار الهلال 1991).
[8] لغز عبد الوهاب - محمد تبارك (كتاب اليوم 1991).
[9] يبدو من أسلوب الحكاية أنها مقتطعة من مادة كتبها رامي بنفسه، لكن محقق المذكرات لا يشير لمصدر الحكاية بوضوح، ويكتفي بما ذكره كريم "لنترك رامي يروي قصة هذه الأغاني بأسلوبه الممتع نقلا عن سيناريو الوردة البيضاء"، ويقصد في الأغلب نسخة السيناريو التي طبع منها 20 ألف نسخة في مطبعة الرغائب لصاحبها السنيور بسكوالي، تم توزيعها خلال أسبوع العرض الأول للفيلم.
[10] توفي أحمد شوقي يوم 14 أكتوبر 1932.
[11] طانيوس افندي عبده (1869-1926) صحفي وأديب ومترجم لبناني. ولد في بيروت وهاجر إلى الاسكندرية. أنشأ صحف "فصل الخطاب" و"الشرق" اليومية و"الرواي" الأسبوعية. وله عدد كبير من الروايات القصصية والمؤلفات والتراجم.
[12] قرى تابعة لمحافظة الفيوم المصرية.
[13] محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد - محمود عوض (مكتبة الأسرة 2013).

3 comments:

  1. بتكتب فين تاني؟ علشان انت شكلك سبتك من هنا نهائي.

    ReplyDelete
  2. حضرتك متصورش في السنبلاوين اتصور عندنا في فاقوس الشرقيه والفيلا موجوده لغايه دلوقت للي يحب يجي يصورها ويطابقها مع الفيلم. اتاكدو من نشر المعلومه قبل نشرها

    ReplyDelete
  3. بتشتم سيادة الريس ليه يا حقير

    ReplyDelete