Thursday, October 18, 2012

الدراما التشكيلية والقضية السينمائية في فيلم الثعبان



نشر المقال في جريدة القاهرة ثم في نشرة مهرجان الأسكندرية السينمائي ثم أعادت القاهرة نشره بعد فوز الفيلم بجائزة أحسن فيلم في المهرجان


لا يمكن لمتابع ألا يلاحظ هذه الطفرة الهائلة التي تعيشها السينما التركية، ليس فقط على صعيد الإنتاج الضخم الذي تزيد شعبيته تدريجيا في دول الشرق الأوسط والعالم، ولا حتى على صعيد النجاحات المتتالية في أكبر المهرجانات العالمية لمخرجين مثل نوري بيلجي سيلان وسميح قبلان أوغلو اللذان حصدا جائزة تحكيم مهرجان كان ودب برلين الذهبي في عامين متتالين، ولكن الأهم من كل ذلك هو ذلك الفهم الواضح لطبيعة الوسيط السينمائي الذي أصبح من المعتاد أن تلحظه في غالبية الأفلام التركية حتى المتوسط المستوى منها.

فالحقيقة التي يغفلها الجميع هي أن معيار الحكم الحقيقي على ارتفاع مستوى الصناعة السينمائية في مجتمع هو تواجد أعمال يمكن نعتها بالسينمائية قبل أي وصف آخر، أعمال يدرك أصحابها أن السينما هي وسيط بصري بالأساس، وأن صانع الأفلام قبل أن يبحث عن الفكرة المدهشة أو الإنتاج الضخم أو القضية الشائكة، عليه في البداية أن يعلم أن دوره يختلف كثيرا عما يقوم به كاتب المقال أو الروائي، فحتى لو أراد أن يطرح قضية تهمه فعليه أن يبحث عن كيفية التعبير عنها بمفردات من المعجم البصري بدلا من الحكايات العجائبية والوعظات اللفظية.

هذه الروح السينمائية ستجدها بوضوح في فيلم (الثعبان) للمخرج كانير إرزينكان، والذي يمثل تركيا في المسابقة الرسمية لمهرجان الإسكندرية الثامن والعشرين. وفيه يقدم المخرج في أول أعماله الروائية الطويلة صورة أخرى من النوعية التي يمكن تسميتها "الدراما التشكيلية" التي أصبحت علامة مميزة للسينما التركية خاصة أعمال المخرجين الكبيرين سيلان وأوغلو. ويعتمد هذا الشكل من الدراما على الإعلاء الكامل لقيمة اللقطة السينمائية كوحدة ناقلة لدراما مبسطة تطرح الأسئلة بقدر أكبر بكثير من وضعها للإجابات، مع التوظيف الواعي لعناصر تكوين الكادر والمنظورين الخطي واللوني وتقسيم مستويات عمق الصورة من أجل الوصول للاستفادة القصوى من إمكانيات الكاميرا كأداة سينمائية وحيدة لنقل المشاعر الإنسانية.

الحكاية دائما ما تكون بسيطة جدا ومستلهمة من الواقع الحياتي، وهي هنا لأسرة تعيش في قرية على الحدود الشرقية لتركيا القريبة من إيران. الأسرة مكونة من ثلاثة ذكور أكبرهم الأب الذي فقد ساقه قديما خلال عملية تهريب عبر الحدود، والثاني هو الأبن الأكبر الذي يعمل في صيد الثعابين وبيعها لشركات الأدوية، أما الثالث فهو الأبن الأصغر الذي يجمع القواقع ليبيعها هو الآخر مقابل ليرات قليلة. الشخصيات الثلاث تعيش معا في منزل ريفي شديد الضيق يظن من يراه للمرة الأولى أنه لابد وأن يجعلهم مندمجين تماما بحكم تقاربهم الجسدي، ولكن متابعة حياتهم تجعلنا نتوصل للقدر الهائل من العزلة التي يعيشها كل منهم ممتلكا أهدافه وهواجسه الخاصة التي تتفق أحيانا وتتعارض أحيانا مع رغبات رفيقي سكنه، لكنه لا يدرك أبعاد هذا التقارب والتناقض ربما لعدم رغبته في الإدراك من الأساس.

الأب العجوز يشعر بالملل واقتراب أيامه من الانتهاء فيحلم بالزواج مجددا من امرأة إيرانية، وسر الاختيار هو انخفاض تكلفة الزواج من الإيرانيات مقارنة بالتركيات، ولكنه في المقابل يخشى المخاطرة وعبور الحدود بسبب هاجس الحادث القديم الذي أفقده ساقه. يخطط الأب لتحقيق هدفه بعيدا عن علم ابنه الأكبر المنشغل بحب من طرف واحد عابر لحواجز المدنية والطبقية يشعر به تجاه الطبيبة التي تعالج أسنانه في المدينة، بينما تتناقض رغبته باستمرار الجفاف الذي تكثر فيه الثعابين مصدر رزقه مع رغبة شقيقه الأصغر في هطول الأمطار لتظهر القواقع التي يجمعها ويبيعها.

لا يمكننا بحال أن نعتبر رغبة كل شخص من الثلاثة حلما بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا تفتيشا عن الكمال والاتزان النفسي كما قد تبدو الأمور لوهلة، ولكنها في الحقيقة محض محاولات لرتق الثوب المليئ بالثقوب، وحيل دفاعية يستخدمها كل منهم ليثبت لذاته أنه لا يزال متمتعا بالحد الأدنى من الإنسانية في عالم قاس يقوم بالكامل على فكرة محبطة اسمها البحث من أجل الرزق. فعندما تصبح الوسيلة المتاحة لكسب الرزق هي البحث الزواحف التي قد تجدها أو لا تجدها فتعود خالي الوفاض، فإن قيما كالعمل والحب والاستقرار والتحقق تصبح مجرد خيالات يصعب تصورها إلا في حلم يفيق الإنسان منه سريعا، تماما كما أفاق الأبن الأكبر على مشهد الطبيبة الجميلة وهي تقبل حبيبها الذي لابد وأن يكون ابن مستواها المادي والعلمي والاجتماعي.

لاحظ هنا أن الفيلم ليس خاليا من طرح القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة، بل إنه على العكس تماما يحمل انتقادا شديد الذكاء للنظام الرأسمالي بأكمله. ولكنه لا يقدمه بتلك الصورة الصاخبة التي اعتدنا مشاهدتها ممن يحاولون أدلجة السينما وتحويلها إلى منشورات تحمل أفكارهم السياسية، بل عبر تضمينات هامسة قد لا يلحظ المشاهد وجودها من الأساس ولكنه لابد وأن يصله تأثيرها. وفي هذا تحديدا يكمن جوهر ما قلته عن الأسلوبية الأمثل لطرح "القضية السينمائية" التي ينبغي أن تختلف عن أسلوب مناقشة نفس الأمور على صفحات الجرائد.

فمهنة البحث عن الثعابين والقواقع هي مجاز سينمائي ذكي لفكرة المجتمع محدود الموارد، والذي يتكالب أفراده رغما عن إرادتهم وكل منهم يحاول الوصول للرزق قبل غيره، ليس لأنه يكرهه أو يتمنى له الشر ولكنه لأنه يعلم جيدا أن عدد القواقع محدود، وأن عودة صديقه في نهاية النهار بأكبر قدر ممكن منها لن تساوي إلا عودته هو بقدر ضئيل لا يكفيه لكسب قوته. هذه الحالة من اقتصاد الندرة تقود الإنسان تدريجيا لتفهم موقف من يسيء إليه سعيا للرزق، لذلك فستجد الأطفال جامعي القواقع يغضبون من صديقهم الذي يسرق كل قواقعم ويهرب بها بشكل لحظي، ولكنهم ينسون ما حدث في الصباح التالي ويواصلون صداقتهم بشكل طبيعي، فما حدث كان مجرد سقطة يمكن تفهمها في مثل ظروفهم.

الطريف في الأمر هو فهم سكان القرية الخاطئ لكيفية حل أزمتهم، فيلجأون لممارسات وطقوس شبه وثنية يحرقون فيها ثعبانا كوسيلة لمطالبة السماء بالأمطار التي ستجلب لهم القواقع حتى لو أضرت بجامعي الثعابين ـ أخلاقيات الندرة مجددا ـ دون أن يفكروا للحظة في أن عدوهم الحقيقي هم هؤلاء التجار المستغلين، الذي يأخذون منهم ما جمعوه مقابل مبالغ ضئيلة جدا يدفعونها على دفعات بعدما يكاد صاحبها أن يتسول حقه ومقابل تعبه. هؤلاء التجار السماسرة هم صورة واضحة لتسلط رأس المال، والذي لابد وأن يدعم نفسه بالقوة التي تحميه وتحافظ على هيبته داخل المجتمع المحدود، تماما كما قام رجال تاجر الثعابين المتسلط بالاعتداء على بطلنا عندما أراد الحصول على أموال الثعابين التي جمعها دون أن يلحق طلبه بقدر الذل الكافي لرضا التاجر الرأسمالي.

مظاهر الرأسمالية وآثارها على الأفراد تلمحها أيضا في الطريقة التي أراد الأبن الأكبر أن يعبر بها للطبيبة عن حبه، فبينما نرصد جميعا قدرة الطبيبة على التقارب الإنساني منع عبر حديث دار بينهما في عيادتها، فأن النظرة الدونية التي يصنف فيها الرجل نفسه بسبب وضعه المالي والمهني تجعله لا يجد وسيلة أفضل للتعبير عن حبه من شراء حقيبة باهظة الثمن يقدمها لحبيبته باعتباره أداة يؤكد لنفسه من خلالها قبل أن يؤكد للطبيبة قدرته على عبور الحاجز الطبقي ولو لحظيا، حتى لو كان هذا العبور بأموال انتزعها من تاجر الثعابين تحت تهديد السلاح.

ولاحظ هنا المفارقة: فالأموال هي بالأساس حقه ونتاج عمله الذي يرفض التاجر منحها إياه بالصورة الطبيعية، ولكنه يعيش معانيا طوال عمره لا يفكر في إتخاذ فعل ثوري لانتزاع حقه بالقوة خوفا من رد الفعل، ولا يقدم على مثل هذا الفعل إلا عندما يكون هدفه من الحصول على المال هو الشعور بالارتقاء الطبقي عبر استهلاك سلعة باهظة، حتى لو تم شراءها بمبلغ طائل يكفي لتلبية رغبات أسرته لفترة من الزمن. ألا يحمل هذا التفسير للحكاية جميع عناصر المجتمع الرأسمالي من استغلال للفقراء ووضعهم في دوامة مع توجيههم إلى أن السبيل الأوحد للإشباع والشعور بالذات هو الاستهلاك؟

هذا التفسير هو مجرد طرح قد يتفق أو يختلف مع رؤية أي شخص آخر لنفس الفيلم، فلب الدراما التشكيلية هي هذه المساحة من التساؤلات التي يصنعها العمل الفني ويتركها لكل مشاهد ليملأها بهواجسه وتفسيراته الخاصة، في محاولة شعرية للتطهير نجح فيها المخرج كانير إرزينكان في فيلم يعد اختياره للمشاركة في المهرجان مكسبا للدورة بكل المقاييس.

No comments:

Post a Comment