Thursday, October 18, 2012

العذراء والأقباط وأنا.. وليبرالية الاحتقان الطائفي



نشر المقال في جريدة القاهرة بتاريخ 10 يوليو 2012

اعتاد الناقد سامي السلاموني في كتاباته أن يصف ظهور أي مخرج جديد واعد بأنه حدث عظيم يستحق الاحتفاء من الجميع؛ وذلك للحفاظ على شباب الصناعة ودعم موهوبيها في مواجهة تجار السينما الاستهلاكية. وإذا كان الراحل الكبير استخدم هذه القاعدة في عصر كان الإنتاج السينمائي المصري فيه غزيرا بشكل يسمح بتواجد دائم لكبار المخرجين حتى وإن كانوا أقلية في مواجهة مخرجي المقاولات وتغييب الوعي، فإن نفس القاعدة لابد وأن تصير دستورا ننتهجه جميعا في زمننا الحالي الذي صار إنتاج السينما المصرية فيه مقتصرا على عدد محدود من أفلام يغازل معظمها شباك التذاكر بتدنٍ لم يتواجد حتى في الأعمال التي كان السلاموني يحاربها.

لذلك فلم أندهش إطلاقا من الحفاوة البالغة التي قابل بها النقاد فيلم "العذراء والأقباط وأنا" للمخرج نمير عبد المسيح عندما تم عرضه خلال فعاليات مهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي الذي انتهى قبل أيام. وهي حفاوة تحولت لسعادة بعد تتويج الفيلم بجائزة أحسن فيلم تسجيلي طويل وهي أكبر جائزة يمنحها المهرجان. موقف النقاد الذين كتبوا عن الفيلم وجمعيات السينما التي تبارت في إعادة عرضه لدرجة جعلته يعرض في ثلاثة أماكن مختلفة خلال الأسبوع الماضي فقط هو موقف طبيعي جدا في ظل المستوى الفني المتميز لفيلم ينبغي أن يشاهده المصريون بكافة طوائفهم.

شرارة البدء

مخرج الفيلم نمير عبد المسيح هو شاب مصري هاجر مع أسرته إلى فرنسا قبل أعوام طويلة. وهناك أصبح مخرجا سينمائيا وفقد إيمانه الديني وأصبح منصهرا بصورة أو بأخرى داخل المجتمع الفرنسي، حتى وصل لوالدته شريط فيديو يحمل تسجيلا لحادث ظهور السيدة العذراء فوق إحدى الكنائس ليكون الشريط هو شرارة البدء التي دشنت هذا العمل السينمائي الفريد.

فالأم المؤمنة سعدت بالشريط وأبدت قناعتها الكاملة بأنها قد شاهدت العذراء بوضوح، بينما لم ير نمير أي شيء في نفس المشهد، وهو الخلاف الذي انطلق منه المخرج الشاب ليأخذ الكاميرا الخاصة به ويعود لمصر ليبحث عن الحقيقة وراء هذا الظهور وسبب إيمان الآلاف بحدوثه في الوقت الذي لا يوجد فيه أي دليل يثبت ذلك. رحلة نمير البحثية قادته من كنائس القاهرة إلى شوارعها، ثم إلى الصعيد في أسيوط ومنها إلى قرية والدته النائية ليستكمل هناك هذه الرحلة الاستكشافية لطبيعة الشخصية المصرية وعلاقته بالدين بشكل عام.

الشكل والمضمون

وتتطلب محاولة تناول الفيلم التسجيلي بصفة خاصة اهتماما بالعلاقة بين الشكل والمضمون، وهي إشكالية تاريخية قائمة منذ بدء صناعة السينما حتى يومنا هذا لم يتمكن طرف من حسمها لصالحه حتى المؤمنين برأي جودار من أن الشكل هو المضمون. وتراث الأفلام التسجيلية المصرية ينحو بصفة عامة لإعلاء قيمة المضامين؛ وذلك انطلاقا من ارتباط السينما التسجيلية التاريخي بالتلفزيون ومؤسسة السينما الذي ألزمها بمسؤوليات إرشادية امتدت حتى وصلت لمعظم شركات الإنتاج الصغيرة التي تركز عملها حاليا على صناعة أفلام بغرض تسويقها للمحطات التلفزيونية. وباستثناء محاولات معدودة تتم من وقت لأخر كأعمال هاشم النحاس وشادي عبد السلام التسجيلية ستجد أن أغلب الإنتاج التسجيلي المصري مكون من أفلام تعتمد على محتواها المعلوماتي أكثر من صنعتها السينمائية.

ما فعله نمير عبد المسيح في فيلمه ببساطة هو التوصل لصيغة تحل هذه المعادلة الإشكالية وتجمع بين النجاح الفني والنجاح الموضوعي. ففيلمه متقن الصنع يقوم على تأسيس بصري ودرامي واضح لكل مشهد من الحكاية التي يتحرك الصراع فيها دائما بشكل متصاعد، دون أن يتجاهل تقديم كافة المعلومات التي يحتاجه من يشاهد الفيلم لفهم طبيعة المجتمع المصري وحالة الاحتقان الطائفي المسكوت عنها داخله. ولا يتوقف الأمر عند إحكام الصنعة وقيمة الموضوع، بل يجتازه بتحقيق الأكثر صعوبة وهو الإمتاع. ففيلم "العذراء والأقباط وأنا" عمل ممتع بحق يحافظ على انتباه المشاهد الكامل ويدفعه للضحك كثيرا، ولكنه ليس الإضحاك الاستهلاكي السخيف الذي يغيب العقول، بل إضحاك ذكي يطرح الأسئلة ويترك للمشاهد حرية الإجابة.

ويعتمد المخرج في الوصول لهذا النوع من الإضحاك على لعبة درامية يكررها بتنويعات مختلفة على مدار الفيلم، وهي الاعتماد على التواجد الدائم لعنصر غريب داخل سياق واقعي منطقي، مما يعلي تلقائيا من قيمة آليات المقارنة عند المتلقي ليفكر في الفروق بين العوالم بعدما يضحك من قلبه عليها. بداية من تواجد فكرة الإيمان الغيبي نفسها داخل المجتمع الفرنسي العلماني، والذي يجعل من قناعة الأم بظهور العذراء تصرفا غريبا عن السياق المجتمعي يدفعنا للابتسام مع نمير ردا على ما تقوله والدته. وهو نفس الوضع الذي ينقلب تماما عندما يصل المخرج الشاب لمصر فيجد قناعاته وقد أصبحت هي العنصر الغريب هذه المرة وسط إيمان كل من حوله بالظهور بل ورفض قريبه أن يناقش إمكانية عدم حدوث الأمر من الأساس.

على نفس الوتيرة تستمر مفارقات العنصر الغريب كالشاب أوروبي الملابس الذي يمارس رياضة الجري بملابسه الحديثة في قرية صعيدية يحاول أهلها تقليده، وحتى الوصول للفصل الأخير الذي تتحول القرية فيه إلى ستوديو تصوير كبير يتم فيه إعادة تمثيل الظهور في فيلم يخرجه نمير ويلعب بطولته أبناء القرية بما فيهم الفتاة التي ستلعب دور السيدة العذراء نفسها. ولاحظ هنا أن السياق لا ينجرف أبدا نحو العبث بسبب الحفاظ أن يظل العنصر المضاف غريبا داخل سياق واقعي. فصحيح أن أهالي القرية يوافقون على التصوير ولكن مسلموها يرفضون أن تمثل إحدى بناتهم دور العذراء، وصحيح أن الكنيسة تدعم التصوير ولكن ليكون الفيلم وسيلة لإثبات الظهور، وصحيح أن القرية تحولت لاستوديو يصل إلى حد التصوير باستخدام الكروما ولكنه يظل ستوديو يقتحمه الأطفال الراغبين في المشاهدة فتخشى الأم/ المنتجة طرد أحدهم حتى لا يغضب والده فيرفض التصوير في منزله!

ليبرالية الطرح

وتتجلى قيمة الحفاظ على واقعية العالم الفيلمي في تمكن الفيلم من إيصال  رسالته على النحو الأكمل، وتأكيد ارتباطها اللصيق بالمجتمع المصري الذي يمتاز بتلك العلاقة المركبة المتأرجحة بين الأخوة والعداوة بين المسيحيين والمسلمين. ليجبرك الفيلم على التفكير في سر هذا الاحتقان الذي لا يوجد ما يبرره سوى تدخل السياسة كما تقول إحدى الشخصيات. ولكن طرح هذه القضية الشائكة لا يأتي بطريقة "حفل إفطار الوحدة الوطنية" التي تزكي تلقائيا فكرة وجود "عنصرين" للأمة يجب عليهما التعايش معا، بل يأتي من منطلق إنساني يتعاطف مع الشخصيات ويتفهم دوافع تصرفاتها وقناعاتها حتى لو اختلف معها.

قيمة الفيلم أيضا تظهر في تعامله مع القضية شديدة الطائفية بصورة شديدة الليبرالية، فلا يصدر أحكاما أخلاقية على أي طرف ولا يدعي التوصل للحقيقة الكاملة بأي شكل من الأشكال، بل يكتفي بعرض الحكاية المثيرة ليفتح الباب لمختلف التفسيرات طبقا لطريقة تلقي كل منّا للفيلم. فهناك تفسير يقول أن المخرج ينفي ظهور العذراء بل ينظر بصورة لا دينية كاملة متمثلة في كيفية إعادة خلقه لعملية الظهور بإمكانيات بسيطة لم تمنعه من أن يجعل سكان القرية يتجمعون بالعشرات وينظرون بمنتهى الدهشة لنقطة خالية لا يوجد فيها أكثر من "ظل" المخرج، أو كما يقول المصطلح الشعبي فهم ينظرون بانبهار إلى "خياله"!

والغريب أن الانبهار يمتد ليصل ذروته عندما يقوم بعرض فيلم الظهور في صورته النهائية على القرية، لتلمح ذلك الانبهار الذي يكاد يكون تصديقا في عيون أشخاص شاركوا بأنفسهم في تمثيل ما يُعرض على الشاشة. وهو ما قد يفسر بأنه رفض للميكانيزم الإيماني بأكمله لما فيه من ميل لتصديق الغيبيات حتى عندما يكون المؤمن متأكد تماما من زيفها. ولكن لا يمكن اعتبار هذا التفسير هو الوحيد للفيلم في ظل مشهد النهاية الذي يرحل فيه المخرج ووالدته من القرية بعد إتمام مهمتهما بينما تقف العذراء تراقب رحيلهما دون أن يشعرا بها. وكأن الرفض القاطع لتصديق ظهورها هو الآخر نوع من الإيمان المطلق الذي يحتاج صاحبه لمراجعة نفسه خوفا من أن يقع في نفس الخطأ الذي يلوم غيره عليه.

بكل المقاييس يعتبر فيلم "العذراء والأقباط وأنا" واحدا من أهم وأنضج الأعمال السينمائية التي شاهدناها خلال العالم الحالي. وهو فيلم يطرح قضية شديدة الخطورة بشكل ناضج ومتفتح يستفيد من جماليات الفن السينمائي ويحافظ على عنصر الإمتاع ليحقق علامة النجاح الكاملة.

No comments:

Post a Comment